فصل: تفسير الآيات (118- 120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (113- 115):

{لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}.
التفسير:
ذكر القرآن الكريم {أَهْلِ الْكِتابِ} في كثير من المواقف، وأدانهم في كثير منها، وكشف موقفهم من رسالة الإسلام، ومن رسول الإسلام، هذا الموقف العنادىّ القائم على الكيد، والتربص! وإذ كان أهل الكتاب، هم اليهود والنصارى، فقد فرق القرآن بين الفريقين، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا.
كان اليهود في وجه عداوة ظاهرة وخفيّة لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام، كما كانوا على كلمة سواء في الكيد لها والمكر بها.. على حين كان النصارى على درجات متفاوتة في موقفهم من تلك الدعوة.. تلقّاها بعضهم فآمن بها، ودخل فيها، وصار من أهلها.. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا، ومباعدا مقاربا.. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة، فقد أنكر الدعوة، ونأى بنفسه عنها.. لا ينالها بسوء، ولا تناله هي بخير! ولهذا جاء قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [82- 83 المائدة].
جاء قول اللّه هنا محددا موقف كلّ من الفريقين من الإسلام.
فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهم والمشركون على سواء في هذه العداوة، مع أنهم أهل كتاب، يلتقى كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبىّ المسلمين، بنسب قريب، قريب.
والنصارى- لأنهم أهل كتاب- هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوى على اليهود.. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح في المؤمنين به.
وفى قوله تعالى: {لَيْسُوا سَواءً}.
تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب.. اليهود والنصارى، وأنهم ليسوا على وضع واحد في موقفهم من الإسلام والمسلمين.
وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتّجه إليه الحكم في قوله تعالى {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}.
وفى إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا، حكمة، نتبين منها:
أولا: أنّ في كلا الفريقين من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- جماعات قائمة على الحق، مؤمنة باللّه وباليوم الآخر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ثانيا: كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم.. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون في هذا الحكم أيضا.. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن في الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة.
ثالثا: من صدق القرآن، ودقة أحكامه، أنه لم يجعل الحكم مطلقا في النصارى، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء.. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار وأشرار، وإن غلب الأخيار في النصارى، وغلب الأشرار في اليهود.. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفّق المسالم، وليس كل اليهود- بلا استثناء فرد أو عدة أفراد- يكيدون للإسلام هذا الكيد، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية.
وفى قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وصف كاشف للنصارى، إذ كان دينهم يدعوهم إلى التبشير به وإذاعته في الناس، وليس كذلك اليهود، وما يفهمون من دينهم- كما أشرنا إلى ذلك في أكثر من موضع.
وقوله تعالى: {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} تتمّة لهذا الحكم الذي حكم به اللّه لهم، وهو أنهم إذ عدّوا في المؤمنين باللّه فإن كل عمل خير يعملونه يتقبله اللّه، ويجزيهم عليه، وليس كذلك أعمال المشركين.. إن الشرك أحبطها، وحرم أهلها ثمرة قبولها عند اللّه.. {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [27: المائدة] وملاك التقوى، الإيمان باللّه وباليوم الآخر.

.تفسير الآيات (116- 117):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}.
التفسير:
الحكم الواقع على الذين كفروا هنا عام، يشمل الكافرين جميعا، وإن كان يتجه أول ما يتجه إلى الكافرين من أهل الكتاب، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، لأنهم كفروا مع ما في أيديهم من هدى، وطرحوا ما معهم من إيمان: بخلاف الكافرين أصلا.. وإن كان الكفر هو الكفر، إلا أن بعضه أشدّ من بعض سوءا، وأبغض وجها.
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب، ومن غير أهل الكتاب، سيلقون جزاء كفرهم يوم القيامة، حيث يلقون في نار جهنم خالدين فيها أبدا، وحيث لا يدفع عنهم هذا العذاب ما كان لهم في الدنيا من مال وولد، وإن ملأ وجه الأرض كثرة وعددا! أما هذه الأعمال التي عملوها في هذه الدنيا، واحتسبوها فيما هو للخير، فلن يجدوا لها أثرا يوم القيامة.. إن كفرهم باللّه قد أحبطها، وأبطل آثارها.
فهى أشبه بزرع تعب فيه زارعوه، وبذلوا له ما بذلوا من جهد، وفيما هم في انتظار جنى ثمره، جاءته ريح عاصف فأتت عليه، وأصارته هشيما، لا ينتفع بشيء منه.
وقوله تعالى: {رِيحٍ فِيها صِرٌّ}.
أي ريح تحمل في كيانها قوى التدمير والإتلاف.. والصّرّ هو البرد الشديد الذي يبلغ من شدته أن يحرق الزرع كما تحرق النار.
وفى قوله تعالى: {أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} إشارة إلى أن الظلم يحيط بأهله في الدنيا وفى الآخرة جميعا.. وأن للظالمين عند اللّه عقابا معجلا، وآخر مؤجلا، ليكون في ذلك عبرة ماثلة للناس، يرون فيها نقم اللّه لمن حادّ اللّه وحاربه!

.تفسير الآيات (118- 120):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}.
التفسير:
فى هذه الآيات يحذّر اللّه المؤمنين أن يأمنوا جانب هؤلاء الذين يكيدون لهم ولدينهم، ويبيّتون السوء للرسالة الإسلامية، ويصدون الناس عنها.
والبطانة هم الذين يدنيهم الإنسان منه، ويتخذهم موضع سرّه، فيطلعهم على ما يخفيه ويبطنه عن غيرهم.
وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم، فيكيد لكم.
وفى قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا} إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له.. إنهم يجهدون كل جهدهم في النيل من المسلمين.. لا يقصّرون في أمر فيه نكاية بالمسلمين، وخبال لهم، وإضعاف لشأنهم.
وفى قوله تعالى: {وَدُّوا ما عَنِتُّمْ} إشارة ثانية إلى ما في قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين.. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام.
وفى قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب.. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة، التي يصوبونها في خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوى عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء.
وفى قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} يضبط اللّه سبحانه وتعالى أولئك المسلمين الذين ظلوا على ولائهم وصداقتهم لهؤلاء الأعداء، ويقدمهم للمسلمين متلبسين بفعلتهم تلك المنكرة، ويريهم بأعينهم مدى الغبن الذي أصابهم من تلك الصحبة.. إنهم يحبون من لا يحبهم، بل ومن يبيّت لهم الشر، ويدبر العدوان! وقوله تعالى: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ} إشارة ثانية إلى تلك الصحبة غير المتكافئة، فالمسلمون الذين يوادّون هؤلاء القوم، يؤمنون بالكتاب كله، أي بكتب اللّه المنزلة على رسله، وهى في مجموعها كتاب واحد، هو كتاب اللّه- وهؤلاء القوم لا يوادّون المؤمنين، ولا يؤمنون إلا بالكتاب الذي في أيديهم، ويكفرون بجميع الكتب السماوية، ومنها القرآن.
وقوله: {وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} سبب ثالث للمباعدة التي ينبغى أن تكون بين المسلمين وبين هذه الجماعة.. إنها تعيش مع المسلمين على نفاق.. يعطونهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.. يظهرون لهم أنهم على دينهم، وأنهم على وفاق معهم.. فإذا خلا بعضهم إلى بعض لبسوا الثوب الذي أخفوه في طيات نفاقهم وملّقهم، وأخذوا يدبّرون المكايد والمعاثر للإسلام وللمسلمين.
وفى قوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} ما يملأ قلوب هذه الجماعة المنافقة اللئيمة كمدا وحسرة.. إنها لن تنال من الإسلام والمسلمين منالا، كما أن في هذا تطمينا للمؤمنين، بهذه البشرى السماوية التي كتب اللّه بها النصر للإسلام وأهله، والخزي والسوء على أعدائه ومناوئيه.
وفى قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} إرهاص بما سيصيب المسلمين في جهادهم في سبيل اللّه، من نصر وهزيمة.. وأنهم في حال انتصارهم على أعدائهم تفيض نفوس هذه الجماعة المنافقة حسرة وألما، وفى حال هزيمتهم تطير قلوبهم فرحا وطربا.
وفى التعبير عن الإصابة بالخير بلفظ المسّ، والتعبير عن الإصابة بالشر بلفظ الإصابة، ما يكشف عن مدى السقوط والتدلّى من مشارف الإنسانية العالية إلى الحضيض والوحل! فالمسّ بالخير، مجرّد المسّ، وهو الشيء القليل يصيب المسلمين، يفزع له اليهود ويضطربون، وتغلى مراجل نفوسهم غيظا وكمدا.. فكيف لو أصاب المسلمون من الخير شيئا كثيرا مما وعدهم اللّه به؟ إن ذلك مما يذهب بنفوس القوم مذاهب التّلف! وإصابة المسلمين بالشر، ينزل بهم، ويعمّهم بالبأساء والضراء.. ينظر إليه هؤلاء القوم نظرا يملأ نفوسهم بهجة، ويغمر قلوبهم رضى.. ولو كانوا على شيء من الإنسانية والمروءة لخفّوا لنجدة المكروبين، وبادروا إلى إغاثة المصابين، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا أقل من نظرة عطف وإشفاق، أو حسرة وألم، فإن لم يكن هذا ولا هذا أيضا فليكن موقف جمود وخمود.. أما أن يجد الإنسان في هذا الموقف مشاعر تتحرك فرحا وبهجة، وتتناغى شماتة وغبطة، فذلك هو الذي لا يعرف في إنسان غير إنسان اليهود! الخير القليل.. القليل جدا، يمسّ المسلمين مسّا، يحسدونهم عليه، وتختنق صدورهم به، حتى لتقتلهم الحسرة ويميتهم الكمد! والشر يصيب المسلمين إصابات قاتلة، ويرميهم بالمهلكات.. يجد فيه هؤلاء القوم سعادة ورضى، ولذة وسرورا.
ألا ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يتعرّى من مشاعر الإنسانية، وتشتمل عليه طباع حيّة خبيثة، أو نفس شيطان رجيم! بل ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يعيش في مسلاخ إنسان من هؤلاء الناس!
والموقف الحكيم الذي ينبغى أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها، ففى ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه في شغل أنفسهم بها.
وخير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يقيموها على ما أمرهم اللّه، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهى القوة التي لا تغلب أبدا.. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر اللّه وتأييده.
أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى اللّه.. {إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.
هذا، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم.. ذلك أن هذه الصفات هي علامات مميزة، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس، هم اليهود، لا يشاركهم غيرهم في هذه الصفات.. ومن هنا كان في ذكرها غنى عن ذكرهم، كما فيه تشهير بهم، وتشنيع عليهم، بوضعهم هذا الموضع، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم، وأشارت إليهم.

.تفسير الآيات (121- 122):

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}.
التفسير:
القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث في معركة أحد، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث، وما وقع فيه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم أحد مقالا يقولونه فيهم وفى أمداد السماء التي أمدهم اللّه بها يوم بدر، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل.. فلما كان ما أصيب به المسلمون في يوم أحد، أظهر اليهود الشماتة، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن في قلوبهم مرض بالشكوك والريب في أمر محمد ودعوته.
وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه في الآية (120) قبل هذه الآية: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها}.
وقوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ} تذكير للنبىّ والمسلمين بغزوة أحد، وما كان فيها من أحداث، حيث أصيب المسلمون، وابتلوا في أنفسهم، وكان في هذا ما أشمت اليهود والمنافقين، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء في الإسلام، ونبى الإسلام، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها}.
وفى غزوة أحد خرج النبي من أهله غدوة، أي مبكرا، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة، عند جبل أحد.
وهناك بوّأ النبيّ المؤمنين مقاعد للقتال، ووضع كل جماعة في مكانها من المعركة.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذكير للمسلمين، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين، من قدرة اللّه على كشف ما في الصدور، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ.. فلا تخفى على اللّه خافية، مما يدور في الصدور من خير أو شر.
وقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} هو من أنباء ما في الصدور التي كشف عنها علم اللّه.
ففى جيش المسلمين وقع في بعض النفوس شيء من التردد والخوف، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُما} بيان لرحمة اللّه ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين، إذ ربط على قلوبهم، وجلى عنهم خواطر الشك والريب، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد، فسلم لهم دينهم، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا في مواجهة العدو.
والهمّ بالشيء تحديث النفس به، ومراودة صاحبها عليه، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا.
ولم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السيء.
لأن رحمة اللّه تداركتهما، فلم يقع منهما ما يسوء، وكان من تمام رحمة اللّه ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُما} وكيف ترى أن ولاية اللّه لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال، فكانا من أولياء اللّه وأنصار اللّه.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} [257: البقرة] فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أوحوب؟ وكلا، ثم كلا! وكعادة المفسّرين، في مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها، أو أشخاصها، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص في العبر والعظات المستخلصة من الحدث- نراهم يجهدون الجهد كله في البحث عن متعلقات الحدث، من زمان ومكان وأشخاص، يجلبونها من كل واد، ويلتقطونها من كل فم، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة، مستجدية مستخزية!
وهنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة في هاتين الطائفتين، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان- لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما، ولو درينا لم نر داعية للقول- وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا.. منها.
أولا: أن المؤمن لا يخلو في حال من أن تطرقه وساوس سوء، أو تدور في نفسه نزعات شر.
وثانيا: أن صدق الإيمان، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه، فيجد من أمداد لطفه ورحمته، ما يأخذ بيده إذا عثر، ويشد من عزمه إذا ضعف، وفى هذا يقول اللّه في يوسف- عليه السّلام- وقد جاءته أمداد السماء، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [24: يوسف].
ثالثا: أن ما يهمّ به المؤمن من سوء، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر، لا يؤاخذ عليه، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل، يؤثّر أثره في الناس، وفى الحياة.
على أن الاستسلام لهواجس الشر، والاستماع الطويل لوساوس السوء، قد يمكّن لها في كيان الإنسان، ويعطى لها سلطانا عليه، بحيث تصبح يوما فإذا هي مالكة زمام الإنسان، موجهة له.
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو غقله، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى.